في كل مرة أقرأ فيها خبراً عن نجاح عراقي في الخارج، تتصارع في قلبي مشاعر متناقضة. فرحة عارمة لأن أبناء بلدي يثبتون للعالم أن العراقيين قادرون على التميز والإبداع في أي مكان يحلون فيه، وحزن عميق لأن هذا النجاح يحدث بعيداً عن أرض الوطن التي تحتاج إليهم أكثر من أي وقت مضى.
هذه المعادلة المؤلمة ليست مجرد إحصائيات باردة أو أرقام في تقارير الهجرة. إنها قصص حقيقية لشباب عراقي اضطر للبحث عن أحلامه خارج حدود وطنه، ليس لأنه لا يحب العراق، بل لأن العراق لم يوفر له البيئة المناسبة لتحقيق طموحاته. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: نحن نفتخر بنجاحاتهم في الخارج، بينما نفشل في الاستفادة من قدراتهم في الداخل.
الأرقام تحكي قصة مؤلمة. وفقاً لتقارير حديثة، يهاجر سنوياً آلاف الشباب العراقي، معظمهم من حملة الشهادات العليا والمهارات المتخصصة. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام، بل هم أطباء كان بإمكانهم إنقاذ أرواح في مستشفياتنا، ومهندسون كان بإمكانهم بناء جسور التقدم في بلدنا، وعلماء كان بإمكانهم وضع العراق على خريطة البحث العلمي العالمي.
لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا يغادرون، بل لماذا لا نستطيع إقناعهم بالبقاء؟ الجواب معقد ومتشعب، لكنه يبدأ من فهم أن هجرة العقول ليست مجرد بحث عن راتب أفضل. إنها بحث عن بيئة تقدر الكفاءة، وتوفر الفرص العادلة، وتضمن الاستقرار، وتحترم الإبداع.
عندما يجد الطبيب العراقي نفسه ينتظر سنوات للحصول على فرصة تدريب مناسبة، بينما يحصل عليها في أشهر في الخارج، فإن القرار يصبح واضحاً. وعندما يرى المهندس أن مشاريع البنية التحتية تُسند بناءً على المحسوبية وليس الكفاءة، فإن الإحباط يتحول إلى قرار بالرحيل. وعندما يدرك الباحث أن الاستثمار في البحث العلمي ضئيل ومحدود، فإن المختبرات الأجنبية تصبح الخيار الوحيد لتحقيق أحلامه العلمية.
هذا لا يعني أن كل من يغادر محق في قراره، ولا أن البقاء في العراق مستحيل. هناك قصص نجاح ملهمة لشباب عراقي اختار البقاء والمساهمة في بناء الوطن رغم التحديات. لكن هذه القصص تبقى استثناءات تؤكد القاعدة بدلاً من أن تنفيها.
المشكلة الحقيقية تكمن في أننا نتعامل مع هجرة العقول كقدر محتوم، بدلاً من التعامل معها كتحدٍ يمكن مواجهته. نحن نحتاج إلى ثورة حقيقية في طريقة تفكيرنا حول الاستثمار في الإنسان العراقي. هذا يعني إصلاح منظومة التعليم لتواكب متطلبات العصر، وتطوير بيئة البحث العلمي، وخلق فرص عمل حقيقية تعتمد على الكفاءة، وضمان الاستقرار الأمني والسياسي.
لكن الأهم من كل ذلك هو تغيير الثقافة المؤسسية التي تقدر الواسطة على الكفاءة، والولاء الشخصي على الإنجاز المهني. نحن بحاجة إلى بناء مؤسسات تحترم العقل العراقي وتوفر له البيئة المناسبة للإبداع والنمو.
الحل ليس في منع الشباب من السفر أو إغلاق الحدود أمام الطموحات. الحل في جعل العراق مكاناً يستحق أن يبقى فيه المبدعون، ويعود إليه الناجحون. نحن بحاجة إلى استراتيجية شاملة تتضمن إصلاح التعليم، وتطوير البحث العلمي، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، وضمان الحكم الرشيد.
هذا التحدي ليس مستحيلاً. دول كثيرة واجهت نفس المشكلة ونجحت في عكس اتجاه هجرة العقول. كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، استطاعت في عقود قليلة أن تتحول من دولة مصدرة للعقول إلى دولة جاذبة لها، من خلال الاستثمار الضخم في التعليم والتكنولوجيا والبحث العلمي.
العراق يملك كل المقومات للنجاح في هذا التحدي. لدينا تاريخ عريق في التعليم والثقافة، وثروات طبيعية هائلة، وموقع جغرافي استراتيجي، والأهم من كل ذلك، لدينا شعب ذكي ومبدع ومتعلم. ما ينقصنا هو الإرادة السياسية الحقيقية لإحداث التغيير المطلوب.
عندما نرى عراقياً ينجح في الخارج، يجب أن نفرح بنجاحه، لكن يجب أيضاً أن نسأل أنفسنا: ماذا كان بإمكاننا أن نفعل لنحتفظ بهذا النجاح في العراق؟ وماذا يمكننا أن نفعل لنضمن أن الجيل القادم من المبدعين العراقيين يجد في وطنه ما يبحث عنه في الخارج؟
الجواب على هذه الأسئلة هو مسؤوليتنا جميعاً. مسؤولية الحكومة في وضع السياسات الصحيحة، ومسؤولية المؤسسات في تطبيق معايير الكفاءة والشفافية، ومسؤولية المجتمع في دعم ثقافة التميز والإبداع. فقط عندما نتحمل هذه المسؤولية بجدية، يمكننا أن نحول الفرحة المُرّة بنجاحات أبنائنا في الخارج إلى فرحة خالصة بنجاحاتهم في الوطن.