العراق والذكاء الاصطناعي… هل نحن في القطار أم على الرصيف؟

في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة مذهلة، حيث يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية، يجد العراق نفسه أمام سؤال وجودي: هل نحن جزء من هذا التحول العالمي، أم أننا نقف على الرصيف نشاهد قطار المستقبل وهو يمر أمامنا دون أن نستطيع اللحاق به؟

الإجابة الصادقة والمؤلمة هي أننا لسنا مستعدين بما فيه الكفاية لهذا التحول الجذري. وفقاً لمؤشر الاستعداد الحكومي للذكاء الاصطناعي لعام 2024، يحتل العراق المرتبة 107 عالمياً، وهو ترتيب يضعنا بين أقل الدول استعداداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو جرس إنذار يدق بقوة ليذكرنا بأن الوقت ينفد، وأن التأخير في اللحاق بركب التطور التكنولوجي قد يكلفنا مستقبل أجيالنا القادمة.

لكن قبل أن نغرق في بحر من التشاؤم، دعونا نفهم حقيقة التحدي الذي نواجهه. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية جديدة يمكن تجاهلها أو تأجيل التعامل معها. إنه ثورة حقيقية تعيد تعريف طبيعة العمل والتعليم والصحة والحكومة والاقتصاد. الدول التي تتأخر في تبني هذه التقنيات لن تجد نفسها فقط متخلفة تكنولوجياً، بل ستجد نفسها مهمشة اقتصادياً وسياسياً على المستوى العالمي.

التحدي الأول الذي يواجه العراق في مجال الذكاء الاصطناعي هو غياب الرؤية الوطنية الواضحة. بينما تضع دول المنطقة استراتيجيات طموحة للذكاء الاصطناعي وتخصص مليارات الدولارات لتطوير هذا القطاع، لا يزال العراق يفتقر إلى استراتيجية شاملة ومتكاملة. هذا الغياب للرؤية الاستراتيجية يعني أن جهودنا المحدودة في هذا المجال تبقى مبعثرة وغير منسقة، مما يقلل من فعاليتها وتأثيرها.

التحدي الثاني يكمن في ضعف البنية التحتية الرقمية. الذكاء الاصطناعي يتطلب بنية تحتية رقمية متطورة تشمل شبكات إنترنت سريعة وموثوقة، ومراكز بيانات متقدمة، وأنظمة حوسبة سحابية. رغم التقدم الملحوظ في مجال المدفوعات الرقمية، والذي شهد ارتفاعاً من 2.6 تريليون دينار إلى 7.6 تريليون دينار خلال عام واحد، إلا أن هذا التقدم لا يزال محدوداً مقارنة بما هو مطلوب لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.

التحدي الثالث، والأهم ربما، هو نقص الكوادر المتخصصة. الذكاء الاصطناعي يتطلب خبرات متقدمة في علوم الحاسوب والرياضيات والإحصاء وعلوم البيانات. هذه التخصصات تحتاج إلى استثمار طويل الأمد في التعليم والتدريب، وهو ما لم نبدأ فيه بجدية كافية. الجامعات العراقية، رغم تاريخها العريق، تحتاج إلى تحديث جذري في مناهجها وبرامجها لتواكب متطلبات العصر الرقمي.

لكن التحديات لا تعني الاستسلام. العراق يملك مقومات حقيقية يمكن البناء عليها لتطوير قطاع الذكاء الاصطناعي. لدينا تاريخ عريق في الرياضيات والعلوم، وشباب ذكي ومتحمس للتعلم، وموارد مالية يمكن توجيهها للاستثمار في التكنولوجيا. ما نحتاجه هو الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية لتحويل هذه المقومات إلى واقع ملموس.

الخطوة الأولى يجب أن تكون وضع استراتيجية وطنية شاملة للذكاء الاصطناعي. هذه الاستراتيجية يجب أن تحدد الأولويات والأهداف والموارد المطلوبة، وأن تضع جدولاً زمنياً واضحاً للتنفيذ. يجب أن تشمل الاستراتيجية جميع القطاعات، من التعليم والصحة إلى الزراعة والصناعة والخدمات الحكومية.

التعليم يجب أن يكون في قلب هذه الاستراتيجية. نحن بحاجة إلى إعادة تصميم المناهج التعليمية لتشمل علوم الحاسوب والبرمجة والذكاء الاصطناعي من المراحل المبكرة. يجب أن نستثمر في تدريب المعلمين وتطوير قدراتهم في هذه المجالات. الجامعات تحتاج إلى برامج متخصصة في الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، وإلى شراكات مع الجامعات العالمية المتقدمة في هذا المجال.

القطاع الخاص يجب أن يكون شريكاً أساسياً في هذا التحول. الحكومة وحدها لا تستطيع تحمل عبء تطوير قطاع الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى بيئة استثمارية جاذبة تشجع الشركات المحلية والأجنبية على الاستثمار في هذا المجال. هذا يتطلب قوانين وتشريعات داعمة، وحوافز ضريبية، وتسهيلات إدارية.

الشراكات الدولية ضرورية أيضاً. يمكن للعراق أن يستفيد من خبرات الدول المتقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال اتفاقيات التعاون التقني وبرامج تبادل الخبرات. منظمة اليونسكو، على سبيل المثال، نظمت مؤخراً دورات تدريبية في العراق حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وهذا نموذج يمكن توسيعه وتطويره.

التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في العراق يمكن أن تبدأ من القطاعات التي تحتاج إليها بشدة. في قطاع الصحة، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين التشخيص الطبي وإدارة المستشفيات. في قطاع التعليم، يمكن استخدامه لتطوير أنظمة التعلم التكيفي والتعليم الشخصي. في قطاع الزراعة، يمكن استخدامه لتحسين الإنتاجية ومراقبة المحاصيل.

الحكومة الرقمية تمثل مجالاً واعداً لتطبيق الذكاء الاصطناعي. يمكن استخدام هذه التقنيات لتحسين الخدمات الحكومية وتبسيط الإجراءات وزيادة الشفافية. أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تساعد في مكافحة الفساد من خلال تحليل البيانات واكتشاف الأنماط المشبوهة.

الأمن السيبراني يجب أن يكون اعتباراً أساسياً في أي استراتيجية للذكاء الاصطناعي. هذه التقنيات تفتح آفاقاً جديدة للتهديدات السيبرانية، ونحن بحاجة إلى تطوير قدراتنا في هذا المجال لحماية بياناتنا وأنظمتنا الحيوية.

الأخلاقيات والقوانين جانب مهم آخر. الذكاء الاصطناعي يثير قضايا أخلاقية وقانونية معقدة تتعلق بالخصوصية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. نحن بحاجة إلى إطار قانوني وأخلاقي واضح ينظم استخدام هذه التقنيات ويضمن استخدامها لخدمة الإنسان وليس ضده.

التمويل يبقى التحدي الأكبر. تطوير قطاع الذكاء الاصطناعي يتطلب استثمارات ضخمة في البحث والتطوير والتعليم والبنية التحتية. الاعتماد على عائدات النفط وحدها قد لا يكون كافياً، ونحن بحاجة إلى مصادر تمويل متنوعة تشمل الاستثمار الخاص والتمويل الدولي والشراكات الاستراتيجية.

الوقت عامل حاسم في هذا السباق. كل يوم نتأخر فيه عن اللحاق بركب التطور التكنولوجي يزيد من صعوبة المهمة ويقلل من فرص النجاح. الدول التي بدأت مبكراً في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي تحصد اليوم ثمار استثماراتها، بينما الدول المتأخرة تجد نفسها في موقف أصعب.

لكن التأخير لا يعني الاستحالة. التاريخ مليء بأمثلة لدول استطاعت اللحاق بركب التطور رغم البداية المتأخرة. كوريا الجنوبية وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة كلها أمثلة على دول استطاعت تحقيق قفزات تكنولوجية مذهلة في فترات قصيرة نسبياً.

العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق. يمكننا أن نختار طريق التحول الرقمي والاستثمار في الذكاء الاصطناعي، أو يمكننا أن نستمر في التأخير والتسويف حتى يصبح اللحاق بالركب أصعب وأكثر تكلفة. الخيار الأول يتطلب شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية واستثماراً ضخماً، لكنه يضمن لنا مكاناً في عالم المستقبل. الخيار الثاني أسهل في المدى القصير، لكنه يحكم علينا بالتهميش والتخلف في المدى الطويل.

الشباب العراقي، الذي يشكل 60% من السكان، هو أملنا الحقيقي في هذا التحول. هؤلاء الشباب نشأوا في عصر الإنترنت والهواتف الذكية، وهم أكثر استعداداً لتبني التقنيات الجديدة من الأجيال السابقة. لكنهم يحتاجون إلى الدعم والتوجيه والفرص لتطوير قدراتهم في مجال الذكاء الاصطناعي.

الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس مجرد استثمار في التكنولوجيا، بل هو استثمار في مستقبل العراق وأجياله القادمة. إنه استثمار في قدرتنا على المنافسة في الاقتصاد العالمي، وفي قدرتنا على حل مشاكلنا المحلية، وفي قدرتنا على بناء مجتمع أكثر عدالة وازدهاراً.

السؤال ليس ما إذا كان العراق سيدخل عصر الذكاء الاصطناعي، بل متى وكيف. كلما أسرعنا في اتخاذ القرارات الصحيحة والبدء في التنفيذ، كلما كانت فرصنا أفضل في اللحاق بالركب وتحقيق النجاح. القطار لم يفت بعد، لكن الوقت ينفد بسرعة، ولا مجال للتردد أو التأخير أكثر من ذلك.

Leave a Reply

In Action