في كل صباح، يستيقظ ملايين العراقيين على واقع يذكرهم بأن البنية التحتية ليست مجرد مصطلح تقني يتداوله المهندسون والمخططون، بل هي نبض الحياة اليومية الذي يحدد جودة معيشتهم ومستقبل أطفالهم. عندما ينقطع التيار الكهربائي في منتصف يوم صيفي حار، أو عندما تتحول الشوارع إلى برك من المياه بعد أول زخة مطر، أو عندما يقضي المواطن ساعات في زحمة مرورية بسبب عدم كفاية الطرق، فإنه يدرك أن البنية التحتية ليست رفاهية، بل ضرورة حياتية.
مشروع طريق التنمية، الذي يُعتبر أحد أكبر المشاريع الاستراتيجية في تاريخ العراق الحديث، يمثل نموذجاً مثالياً لما يمكن أن تحققه البنية التحتية المتطورة. هذا المشروع، الذي يهدف إلى ربط الخليج العربي بتركيا عبر العراق، ليس مجرد طريق أو خط سكة حديد، بل هو رؤية شاملة لتحويل العراق إلى مركز لوجستي إقليمي وعالمي.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في ضخامة المشروع أو تكلفته البالغة 17 مليار دولار، بل في قدرتنا على تنفيذه بالشفافية والكفاءة المطلوبة. التجارب السابقة علمتنا أن المشاريع الكبيرة في العراق غالباً ما تواجه تحديات الفساد وسوء الإدارة والتأخير في التنفيذ. لذلك، فإن نجاح مشروع طريق التنمية يتطلب أكثر من مجرد التمويل والتخطيط التقني؛ يتطلب إرادة سياسية حقيقية لضمان الشفافية والمحاسبة.
البنية التحتية الحديثة تتجاوز مفهوم الطرق والجسور التقليدية لتشمل الشبكات الرقمية والاتصالات المتقدمة. في عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، لا يمكن للعراق أن يكتفي ببناء طرق أسفلتية وجسور خرسانية، بل يجب أن يستثمر في البنية التحتية الرقمية التي تمكن من التجارة الإلكترونية والحكومة الرقمية والتعليم عن بُعد.
التقرير الأخير للأمم المتحدة حول التحول الرقمي في العراق يُظهر تقدماً ملحوظاً في مجال المدفوعات الرقمية، حيث ارتفعت قيمة المعاملات الرقمية من 2.6 تريليون دينار في يناير 2023 إلى 7.6 تريليون دينار في 2024. هذا التطور يُظهر أن العراق قادر على مواكبة التطورات التكنولوجية عندما تتوفر الإرادة والدعم المناسب.
لكن البنية التحتية الناجحة تتطلب أكثر من مجرد الاستثمار في المشاريع الكبيرة. تتطلب رؤية متكاملة تربط بين المشاريع المختلفة وتضمن تكاملها وتناغمها. عندما نبني طريقاً جديداً، يجب أن نضمن وجود شبكة كهرباء موثوقة لإنارته، وشبكة اتصالات لتأمين الخدمات الذكية، وأنظمة صرف صحي لحماية البيئة المحيطة.
التحدي الأكبر في تطوير البنية التحتية العراقية يكمن في التمويل المستدام. الاعتماد على عائدات النفط وحدها لتمويل هذه المشاريع الضخمة يجعل العراق عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية. لذلك، نحن بحاجة إلى استراتيجية تمويل متنوعة تشمل الشراكة مع القطاع الخاص، والاستثمار الأجنبي المباشر، والتمويل الدولي من المؤسسات المالية العالمية.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص تمثل نموذجاً واعداً لتطوير البنية التحتية. هذا النموذج يمكن أن يجلب الخبرة التقنية والكفاءة الإدارية من القطاع الخاص، مع الحفاظ على الرقابة والتوجيه الحكومي. دول كثيرة نجحت في تطوير بنيتها التحتية من خلال هذا النموذج، ويمكن للعراق أن يستفيد من هذه التجارب.
لكن الأهم من كل ذلك هو ضمان أن مشاريع البنية التحتية تخدم المواطن العادي وتحسن من جودة حياته اليومية. لا فائدة من بناء طرق سريعة فاخرة إذا كانت الأحياء السكنية تفتقر إلى الخدمات الأساسية. ولا معنى لإنشاء مطارات حديثة إذا كان المواطن لا يستطيع الوصول إليها بسبب سوء شبكة النقل العام.
التخطيط الحضري المتكامل يجب أن يكون أساس أي استراتيجية لتطوير البنية التحتية. هذا يعني دراسة احتياجات كل منطقة وتحديد أولوياتها، وضمان التوزيع العادل للمشاريع بين المحافظات المختلفة، والأخذ في الاعتبار النمو السكاني المتوقع والتغيرات المناخية.
البيئة يجب أن تكون اعتباراً أساسياً في جميع مشاريع البنية التحتية. التغير المناخي والتصحر يفرضان تحديات جديدة على المخططين والمهندسين. المشاريع الجديدة يجب أن تكون مستدامة بيئياً وتساهم في مواجهة التحديات البيئية بدلاً من تفاقمها.
الصيانة والتشغيل جانب مهمل في كثير من مشاريع البنية التحتية العراقية. بناء المشروع هو البداية وليس النهاية. الصيانة الدورية والتشغيل الكفء ضروريان لضمان استمرارية الخدمة وإطالة عمر المشروع. هذا يتطلب تخصيص ميزانيات كافية للصيانة وتدريب الكوادر المتخصصة.
التكنولوجيا الحديثة تفتح آفاقاً جديدة لتطوير البنية التحتية الذكية. أنظمة إدارة المرور الذكية يمكن أن تقلل من الازدحام وتحسن من كفاءة النقل. شبكات الكهرباء الذكية يمكن أن تقلل من الفاقد وتحسن من موثوقية التزويد. أنظمة إدارة المياه الذكية يمكن أن تحسن من كفاءة التوزيع وتقلل من الهدر.
الاستثمار في البنية التحتية ليس مجرد إنفاق حكومي، بل هو استثمار في المستقبل الاقتصادي للبلد. البنية التحتية الجيدة تجذب الاستثمارات، وتحسن من الإنتاجية، وتخلق فرص عمل، وتحسن من جودة الحياة. الدراسات الاقتصادية تُظهر أن كل دولار يُستثمر في البنية التحتية يحقق عائداً اقتصادياً يتراوح بين 3 إلى 7 دولارات.
لكن تحقيق هذا العائد يتطلب التخطيط السليم والتنفيذ الكفء والصيانة المستمرة. يتطلب أيضاً مشاركة المجتمع في التخطيط والمراقبة، وضمان الشفافية في جميع مراحل المشروع، ومحاسبة المقصرين والفاسدين.
العراق يقف اليوم أمام فرصة تاريخية لبناء بنية تحتية حديثة ومتطورة تليق بتاريخه العريق وتطلعات شعبه. مشروع طريق التنمية يمكن أن يكون البداية، لكنه لا يجب أن يكون النهاية. نحن بحاجة إلى رؤية شاملة تشمل جميع جوانب البنية التحتية، من النقل والطاقة والاتصالات إلى التعليم والصحة والبيئة. هذه الرؤية تتطلب إرادة سياسية قوية، وتخطيطاً علمياً دقيقاً، وتنفيذاً شفافاً وكفؤاً، ومشاركة شعبية واسعة. عندما تتوفر هذه العناصر، يمكن للبنية التحتية أن تتحول من مجرد شرايين صامتة إلى نبض حياة ينعش كل خلية في جسد الوطن